بتاريخ (25/3/2021) أصدر المجلس القضائي الاردني قراره القاضي بإقرار مدونة قواعد السلوك القضائي، وفي هذا المقام فإن ما لفت نظري في هذه المدونة ليس فقط ان جميع بنودها تقريبا أستُهِلَت بعبارة ((على القاضي … الخ)) بمعنى انها جاءت زاخرة بالواجبات وبالالتزامات دون أي إشارة – مجرد إشارة – لما ينبغي أن يتمتع به القاضي من حقوق وفي مقدمتها حقه في الحصانة والاستقلال، وهو ما يخل بمشروعية هذه المدونة وينال منها، نظرا لافتقارها لعنصري الموضوعية والتوازن، وإنما استرعى اهتمامي إضافةً لما ذكر، تلك الاسطوانة المشروخة والعبارة المكرورة المملة الفاقدة لأي معنى ذي قيمه، والتي أعفت الدولة ممثلة بالمجلس القضائي واعفت اداتها المتمثلة بقانون استقلال القضاء من مسؤولية ترسيخ كافة ضمانات استقلال القاضي وتجذير مقومات حمايته وحصانته، وتحميل هذا الامر للقاضي نفسه عبر ما جاء في المادة ((رابعا /1)) والتي نصت على ما يلي:
“على القاضي أن يصون استقلاله بذاته وأن يمارس قضاءه … الخ”
إن الاصرار وللمرة الثالثة – فهذه هي المدونة الثالثة – على ايراد عبارة ((يصون إستقلاله بذاته)) عداك عن تبني قيادات القضاء لهذا الشعار الاجوف الخالي من أي مضمون يعكس حقيقتين هامتين وهما:
1- الحقيقة الاولى إصرار بنى الدولة العميقة ومراكز القوى والنفوذ فيها على التحلل من مسؤولية الحفاظ على إستقلال القضاه المناطة أساسا بالدولة التي ينبغي عليها ومن خلال السلطة التشريعيه أن تصدر القوانين والتشريعات المتقدمه التي تحاكي روح العصر وتتجسد من خلال نصوصها جميع المبادئ الاساسيه لإستقلال السلطة القضائيه وفي مقدمتها ضمان حصانة القاضي والنأي به عن سيف العزل والاحالة الى التقاعد القسري المبكر وضمان بقاءه على رأس عمله الى حين بلوغ سن التقاعد القانوني (( سبعين سنه )).
2- اما الحقيقه الثانيه فهي رغبة القائمين على القضاء والنافذين فيه ومن بأياديهم الحل والعقد في الهروب الى الامام والتحلل من التزامهم الاساسي الذي بات اليوم اكثر إلحاحا وهو الالتزام القاضي بضمان استقلال القاضي وحمايته وابعاد سيف العزل والاحالة المبكره الى التقاعد عنه ، وعدم ممارسة اي ضغوط او تأثيرات عليه ، وهي الضغوط التي يمارسها اصحاب الحل والعقد داخل القضاء على زملائهم ومرؤوسيهم القضاه والتي باتت مرصوده ومعروفه والتي احسب أنها الاكثر تأثيرا والأبلغ أثرا على القضاه.
يا سادتي اعضاء المجلس القضائي ، يبدو أنكم في حلكم وترحالكم الى مختلف دول العالم وأحسب ان معظمكم طاف نصف الكرة الارضيه لم تتلقفون شيئا من تجارب الدول التي كان لكم حظ كبير بزيارتها ، ولم تحاولوا أن تنقلوا تجربة ناجحة واحده من عظيم تجاربها ، ولم تتمكنوا من التقاط رسالتين مكتوبتين بخط عريض وواضح وبلغة صريحة لا يداخلها أي لبس ، وهاتين الرسالتين هما:
1- أن مسؤولية الحفاظ على استقلال القاضي لا تقع بتاتا على كاهله وليست مدرجة ضمن قائمة التزاماته ، فإستقلال القاضي هدف عزيز ومسؤولية ثقيلة جداً تنوء بها الجبال ، فما بالك بالقاضي ذاته.
2- وتبعا لذلك،، ولأن الطبيعه تأبى الفراغ فإن الحفاظ على استقلال القضاه ، مسؤولية تتحملها الدولة ومؤسساتها عبر ادواتها الفاعله ، فإذا كان استقلال القاضي مرتبط بحصانته وحمايته وإبعاد سيف العزل عنه فإن الدولة تنهض بهذا العبء من خلال تحصين القاضي بالتشريع عبر ضمان ثباته في وظيفته القضائيه حتى بلوغه السن القانوني الا اذا ما ارتكب مخالفة مسلكيه ، او غدا غير لائق صحيا ، وكمثال على ذلك فإنني سأسرد مقتطفات من الماده 97 /2 من الدستور الالماني والتي جاء فيها ما يلي:
“لا يجوز إرغام القضاه المعينين بصفه نهائيه كقضاه متفرغين أو سحب مناصبهم منهم بشكل دائم أو لفترة مؤقته ، أو نقلهم الى وظائف أخرى ، أو إحالتهم الى التقاعد قبل نهاية خدمتهم إلا بحكم قضائي ولأسباب وطريقه تحددها القوانين … الخ”
وكذلك فإنني سأدلل على ما ادليت به آنفا من خلال الاشارة لنص الماده 107 من الدستور التونسي والتي جاء فيها ما يلي:
“لا ينقل القاضي دون رضاه ، ولا يعزل ، كما لا يمكن إيقافه عن العمل أو إعفاءه أو تسليط عقوبه تأديبيه عليه ، إلا في الحالات وطبق الضمانات التي يضبطها القانون ، وبموجب قرار معلل من المجلس الاعلى للقضاء”
إن قراءة حصيفة للنصين الدستوريين المشار اليهما آنفا تؤكد على ما يلي:
1- أن الدول والمجتمعات الحره التي تنشد التطور والسؤدد وبناء دولة قانون ومؤسسات حقيقيه تسعى لتحصين القضاه وضمان إستقلالهم وحمايتهم وإرساء الطمأنينة في دواخلهم بنصوص دستوريه آمره ومحددة وبعبارات لا تحتمل التأويل.
2- أن الدول والمجتمعات الحره أرست حق ضمان بقاء القاضي في وظيفته القضائيه الى حين بلوغ سن التقاعد إلا في بعض الاحوال التي تسمح بعزل القاضي مبكرا وفي مقدمتها الاسباب التأديبيه ، وبعض الاحوال الاخرى التي عادة ما يجري تعدادها وحصرها بشكل لا يقبل الاجتهاد أو التأويل.
3- أن الدول والمجتمعات الحره التي تنشد القوة والسؤدد عبر بوابة سيادة القانون وحوكمة السلطات رهنت صلاحية عزل القاضي – المضيق عليها اساسا – بوجوب تسبيب وتعليل قرار العزل او الاحالة المبكره الى التقاعد.
جميع ما ذكر أعلاه غير معمول به في الاردن فقد أصرت جميع المجالس القضائيه وآخرها المجلس الحالي ومن بعدها الحكومات وقوى النفوذ – وعبر ذرائع وحجج واهيه لا تصمد أمام أي نقاش موضوعي – على إدارة الظهر لجميع المبادئ الاساسيه الخاصه بإستقلال السلطات القضائيه ، وأبقت على سلاح العزل من الوظيفه والتقاعد القسري المبكر بيد مجالس قضائيه غير تمثيليه وغير منتخبه من القضاه من خلال الاصرار على إبقاء هذه الصلاحيات المنصوص عليها في الماده 15 من قانون استقلال القضاء رقم 29 لسنة 2014 ، وهي الصلاحيات التي تلوح بها في وجه القضاه وتستخدمها دون ضابط موضوعي او ناظم منطقي ، مما مكن رئيس المجلس الحالي من إخراج حوالي 180 قاضي أجزم أن الغالبية الساحقة منهم كان لديهم الكثير ليعطوه للقضاء ولعشرين سنة قادمه الامر الذي ضاعف العبء على القضاه المتعبين اساسا والذين لم يكن عددهم يكفي أصلا للتعامل مع فيض القضايا والنزاعات التي تنهمر فوق رؤوسهم يوميا ، وهو ما أضعف من قدرتهم على الابداع والتجديد ، وأثر بشكل واضح على جودة الاحكام القضائيه ، ثم يأتيك بعد كل هذا الشرح الوافي حول إستحالة ان يتمكن القاضي لوحده من صون إستقلاله إن لم يكن مدججا بمنظومه تشريعيه تكفل له ذلك ، من يقول لك متشدقا ومتفهلوا ومتذاكيا:
“على القاضي أن يصون إستقلاله بنفسه”
الساده المتذاكون ، السيدات المتذاكيات ،،، بلغة واضحه وبلهجة صريحه أقول لكم أن تأمين استقلال القضاة ليست مسؤولية مناطة بهم، ولكنها مسؤولية مناطة بالتشريع الذي ينبغي أن يكفل لهم ذلك، وبالدولة ممثلة بالمجلس القضائي الذي يُطلب منه السعي لإقرار قانون حداثي ومتطور يضمن للقضاة ذلك الاستقلال بديلا للقانون المتخلف المعمول به حاليا والذي ينتمي للعصور الوسطى وليس أكثر،،، شرحت الفكرة بالعربي بتحبوا أشرحها بالسنسكريتي كمان لعل البعض يفهم ويستوعب؟؟